تجنيد الحريديم- قنبلة إسرائيلية تهدد الدولة وهويتها.

المؤلف: إيهاب جبارين08.30.2025
تجنيد الحريديم- قنبلة إسرائيلية تهدد الدولة وهويتها.

في صميم السياسة الإسرائيلية، حيث تتلاقى تيارات الهوية والمساواة، تتبدى قضية تجنيد الحريديم كبركان خامد يهدد كيان الائتلاف الحاكم، بل ويمس صميم الدولة العبرية.

إنها ليست مجرد جدلية قانونية حول إلزامية الخدمة العسكرية، بل هي تساؤل جوهري: هل إسرائيل أمة موحدة، أم فسيفساء من الجماعات المتناحرة؟ وهل تستطيع الدولة أن تنهض بأعباء مجتمع ينكفئ عن المشاركة في الدفاع والإنتاج، بينما يطالب بكامل حقوق المواطنة؟

يستكشف هذا المقال بشكل معمق هذه المعضلة، معتمدًا على مصادر عبرية وتحليلات معمقة، ليقدم قراءة جديدة تتجاوز الطرح الإعلامي السائد.

الجذور التاريخية

تعود أصول إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية إلى "اتفاق بن غوريون" في أواخر الأربعينيات، حينما ارتأى رئيس الوزراء الأسبق ديفيد بن غوريون الموافقة على إعفاء محدود لطلاب المعاهد الدينية من التجنيد، مقابل عدم معارضتهم العلنية للمشروع الصهيوني.

كان المبتغى آنذاك احتواء اليهود المتدينين في بوتقة الدولة الناشئة، بيد أن هذا الإعفاء، الذي بدأ بضع مئات، اتسع نطاقه مع مرور الوقت ليشمل عشرات الآلاف. ووفقًا لتقرير صادر عن معهد الديمقراطية الإسرائيلي (2023)، يحصل قرابة 66 ألف شاب حريدي في سن التجنيد على إعفاء سنويًا، وهو ما يمثل 13٪ من إجمالي عدد المجندين المحتملين.

هذا التوسع أثار استياءً متزايدًا في أوساط العلمانيين والقوميين، الذين يعتبرون هذا الإعفاء انتهاكًا لمبدأ المساواة في تحمل الأعباء. وقد وصفت صحيفة هآرتس العبرية هذا الوضع في افتتاحية لها (يونيو/ حزيران 2024) بأنه "قنبلة اجتماعية تهدد وحدة النسيج الاجتماعي الإسرائيلي"، مشيرة إلى أن الإعفاء لم يعد مجرد امتياز ديني، بل رمز للتصدع العميق بين الدين والدولة.

لماذا يرفض الحريديم التجنيد؟

للوهلة الأولى، قد يبدو رفض الحريديم للتجنيد مجرد تمسك عقائدي بالدراسة التوراتية، لكن التحليل المتعمق يكشف دوافع متشابكة:

  1. الهوية الدينية الراسخة: الدراسة في المعاهد الدينية ليست مجرد نشاط تعليمي، بل هي أساس الهوية الحريدية. وقد وصف الحاخام عوفاديا يوسف، في فتوى شهيرة (1980)، الخدمة العسكرية بأنها "انحراف عن الدين"، معتبرًا التوراة "الحصن الحصين" لإسرائيل.
  2. الخشية من الثقافة العلمانية: يُنظر إلى الجيش، بطبيعته العلمانية والاختلاط الاجتماعي فيه، على أنه تهديد للقيم الحريدية، خاصة مع الزواج المبكر وأسلوب الحياة المحافظ.
  3. الفجوة التعليمية العميقة: المناهج الدراسية في المعاهد الدينية لا تشتمل على مواد أساسية كالرياضيات واللغة الإنجليزية، مما يجعل الشباب الحريدي غير قادر على الاندماج في الوحدات التقنية للجيش. وأشار تقرير صادر عن وزارة الدفاع (2024) إلى أن 70٪ من الحريديم المحتمل تجنيدهم يفتقرون إلى المهارات الأساسية اللازمة للخدمة.
  4. النسيج الاجتماعي الفريد: يهدد التجنيد بتفكيك البنية الاجتماعية الحريدية المتماسكة، والتي تقوم على العزلة الثقافية والزواج المبكر.
  5. الضغط من القيادات الدينية: اعتبر قادة الحريديم، وعلى رأسهم الحاخام شتاينمان (الذي وافته المنية عام 2017)، التجنيد "حربًا على التوراة"، وهو خطاب لا يزال يتردد صداه في الأوساط الدينية المحافظة.

توضح هذه الأسباب أن رفض التجنيد ليس مجرد نزوة عابرة، بل هو تجسيد لصراع أعمق بين هوية دينية محافظة، ودولة تسعى لفرض معايير موحدة على الجميع.

التجنيد والتعليم: نقطة ارتكاز الخلاف

لا يمكن فهم أزمة التجنيد دون إلقاء نظرة فاحصة على نظام التعليم الحريدي. يعتمد نظام المعاهد الدينية، الذي يحظى بتمويل حكومي سخي يصل إلى 1.2 مليار شيكل سنويًا (وفقًا لميزانية عام 2024)، بشكل حصري على الدراسات الدينية، متجاهلًا مواد العلوم والرياضيات التي لا تقل أهمية.

ينشئ هذا النظام أجيالًا من الشباب غير المؤهلين ليس فقط للخدمة العسكرية، بل لسوق العمل أيضًا. وقد حذر تقرير صادر عن البنك المركزي الإسرائيلي (2023) من أن 50٪ من الرجال الحريديم لا يشاركون في سوق العمل، مما يمثل عبئًا اقتصاديًا متزايدًا على كاهل الدولة.

يثار هنا سؤال جوهري: هل يمكن للجيش أن يكون أداة لدمج الحريديم في المجتمع؟

لقد أظهرت التجربة الوحدات العسكرية الخاصة بالحريديم "نتسح يهودا"، نجاحًا محدودًا، إذ لم تستقطب سوى 1200 مجند سنويًا (وفقًا لبيانات الجيش عام 2024).

في المقابل، يخشى الحريديم من أن يكون الجيش وسيلة "لتهويد" هويتهم، وهو ما عبر عنه الحاخام إلياكيم ليفر في أحد خطاباته (2024) قائلًا: "الجيش ليس مكانًا لتلقين التوراة، بل لتقويضها". وبهذا يخشى الحريديم أن يكون الجيش مجرد ذريعة لكسر المحرمات، إذ إن تجاوز حاجز التعليم قد يعجل بتفكك المجتمع الحريدي.

قرار المحكمة العليا: منعطف حاسم

في يونيو/ حزيران 2024، أصدرت المحكمة العليا قرارًا تاريخيًا يلغي إعفاء الحريديم من التجنيد، ويقضي بوقف تمويل المعاهد الدينية التي ترفض التعاون مع قانون التجنيد.

هذا القرار، الذي جاء بعد عقود من الجدل العقيم، أشعل فتيل أزمة سياسية عنيفة. نظمت عائلات جنود الاحتياط، الذين يتحملون وطأة الحروب المتواصلة، احتجاجات حاشدة، مطالبين بـ "المساواة في الأعباء". ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت (يوليو/ تموز 2024) عن ضابط احتياط قوله: "نحن ننزف على الجبهة، بينما هم ينعمون في المعاهد الدينية. هذا ليس عدلًا".

وضع القرار حكومة بنيامين نتنياهو في ورطة حقيقية. فقد هددت أحزاب الحريديم، مثل "شاس" و"يهدوت هتوراه"، بالانسحاب من الائتلاف، بينما واجه نتنياهو ضغوطًا من شركاء آخرين، مثل يولي إدلشتاين ويوآف غالانت، للموافقة على قانون التجنيد. ويعكس هذا الانقسام مدى هشاشة الائتلاف الحاكم، الذي يقوم على توازن دقيق بين القوميين والمتدينين.

يولي إدلشتاين: كلمة السر

يتبوأ يولي إدلشتاين، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، مكانة محورية في هذه الأزمة. فباعتباره عضوًا بارزًا في حزب الليكود، ولكنه غير تابع بشكل كامل لنتنياهو، يمتلك إدلشتاين القدرة على تجميد أو تسريع مشروع قانون التجنيد. وتشير مصادر عبرية (موقع واللا، يوليو/ تموز 2024) إلى أن إدلشتاين ينسق بشكل غير معلن مع يوآف غالانت وبيني غانتس، مما يجعله محورًا محتملًا لتحول سياسي كبير.

وفي مقابلة مع "القناة 12" (أغسطس/ آب 2024)، صرح إدلشتاين قائلًا: "القانون ليس مجرد ورقة سياسية، بل ضرورة وطنية ملحة". ويعكس هذا التصريح طموحه لقيادة تغيير أوسع، ربما على حساب نتنياهو، إذ قد تكون هذه الورقة هي التي تكسر صمت الليكود عن احتكار نتنياهو واستغلاله للحزب.

هل تتهاوى أسس التعايش الديني؟

لم يكن إعفاء الحريديم مجرد إجراء إداري، بل هو جزء لا يتجزأ من "الاتفاق التأسيسي" بين الدولة والجماعة الحريدية. ويواجه هذا الاتفاق، الذي أرسى توازنًا دقيقًا بين الصهيونية والدين، خطر الانهيار.

تشير تهديدات الحريديم بالانسحاب من الائتلاف، كما ورد في صحيفة هاموديع الحريدية (يوليو/ تموز 2024)، إلى تمرد محتمل على هذا الاتفاق. وفي الوقت نفسه، تواجه الدولة صعوبة متزايدة في تمويل مجتمع يعتمد على الإعانات دون المساهمة في الاقتصاد أو الدفاع.

تشمل السيناريوهات المحتملة ما يلي:

  1. جيش احترافي: التحول إلى نموذج تطوعي للجيش، مما يقلل الاعتماد على التجنيد الإلزامي، ولكنه يتطلب إصلاحات اقتصادية جذرية.
  2. استقلال طائفي: تعميق العزلة الحريدية، مما قد يؤدي إلى قيام دولة داخل دولة.
  3. فرض التجنيد بالقوة: تطبيق القانون بالقوة القاهرة، مما قد يشعل شرارة مواجهات داخلية.

بين التوراة والسلاح.. من يمسك بزمام الأمور في إسرائيل؟

إن قضية تجنيد الحريديم ليست مجرد خلاف حول المساواة، بل هي مرآة تعكس هشاشة الهوية الإسرائيلية. فبين التوراة والسلاح، وبين الدين والقومية، تقف إسرائيل على مفترق طرق. وقد يحدد قرار المحكمة العليا، وتحركات شخصيات مثل إدلشتاين، ما إذا كانت الدولة قادرة على فرض معايير موحدة، أم أنها ستظل أسيرة لتوازنات طائفية هشة.

يبقى السؤال المطروح: هل تستطيع إسرائيل تجاوز هذا الانقسام دون تفكيك "الاتفاق التأسيسي" الذي قامت عليه؟ الإجابة ليست واضحة، لكن الوقت لا يمنح الحكومة ترف التنصل والمماطلة.

مع اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول واستمرارها، تفاقمت الأزمة بشكل ملحوظ. فقد تم استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط من الطبقة الوسطى والعلمانية إلى خطوط المواجهة، بينما بقي الآلاف من الحريديم في معاهدهم الدينية بتمويل حكومي كامل.

لم تنطلق صرخات الغضب من المعارضة ووسائل الإعلام فحسب، بل من عائلات القتلى والجنود أنفسهم. فقد أصبحت لافتات مثل: "أين أنتم يا حماة التوراة؟"، و"دماء أبنائنا ليست أرخص من صلواتكم"، جزءًا من مشهد الاحتجاجات المتصاعد الذي يتحدى المسلمات السائدة.

في استطلاع رأي أجرته صحيفة معاريف (نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، عبر 73٪ من الإسرائيليين عن تأييدهم لتجنيد الحريديم، ليس بدافع الكراهية الطبقية فحسب، بل لأن الحرب كشفت عن مدى التمييز الهيكلي بين من يعتبر "ابنًا للدولة"، ومن يعامل كضيف دائم في ظلها.

يقف بنيامين نتنياهو، الزعيم الذي أسس حكمه على التحالف بين اليمين القومي واليمين الديني، في قلب هذه الأزمة، ليجد نفسه عالقًا الآن بين متطلبات الواقع وضغوط الشارع من جهة، وابتزاز الحاخامات وتهديدات شركائه من جهة أخرى.

إن إقرار القانون يعني تفكيك ائتلافه، وسقوط حكومته تحت سطوة الحريديم. أما التراجع، فيعني الإذعان القضائي والسياسي، وفقدان ما تبقى من شرعيته أمام الجمهور العلماني والجنود الذين يقدمون أرواحهم على الجبهات.

يؤكد المقربون من نتنياهو (كما ورد في تقرير خاص للقناة 13، أغسطس/ آب 2024) أنه يبحث عن "حل وسط" يرضي جميع الأطراف، لكن في الواقع، لا يوجد حل وسط في هذه المعادلة الصعبة: "إما الخضوع لسلطة الحاخامات، أو الانصياع لسلطة الدولة العميقة. إما التضحية بالحكم، أو التنازل عن مبدأ المساواة".

وهكذا، تتحول أزمة تجنيد الحريديم أيضًا إلى أزمة حكم بالنسبة لنتنياهو نفسه، الذي اعتاد على اللعب على التناقضات، لكنه قد يضطر اليوم إلى اتخاذ قرار حاسم لا يحتمل المناورة والمداورة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة